ذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم
كان ذلك وله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار (حراء) فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء
فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: (ما أنا بقارئ) . قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:؟ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم؟ [العلق: 1 - 5] )[84]
رجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: (زملوني زملوني) . فزملوه حتى ذهب عنه الروع
فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: (لقد خشيت على نفسي)
فقالت خديجة: كلا [أبشر] فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم [وتصدق الحديث] وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق
فانطلقت به خديجة حتى أتت على ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة [أخي أبيها] وكان امرءا قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي
فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أو مخرجي هم؟)
فقال: نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا [85]
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك قال: فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك
هكذا وقع مطولا في (باب التعبير) من (البخاري)
قال جابر بن عبد الله الأنصاري - وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه -:
(بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني ب (حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله:؟ ياأيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر؟ [المدثر: 1 - 5] . فحمي الوحي وتتابع)[86]
رواه البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه وتكلمنا عليه مطولا في أول (شرح البخاري) في (كتاب بدء الوحي) إسنادا ومتنا ولله الحمد والمنة
وأخرجه مسلم في (صحيحه) وانتهى سياقه إلى قول ورقة: (أنصرك نصرا مؤزرا)
فقول أم المؤمنين عائشة: (أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ. فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني)
وذكر نحو حديث عائشة سواء
فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة وقد جاء مصرحا بهذا في (مغازي موسى بن عقبة) عن الزهري أنه رأى ذلك في المنام ثم جاءه الملك في اليقظة
وروى أبو نعيم في (الدلائل) بسنده عن علقمة بن قيس قال:
(إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي بعد)[87]
قال أبو شامة: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل بعثته
فمن ذلك ما في (صحيح مسلم) عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن)
انتهى كلامه
وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه
وقوله في الحديث: (والتحنث: التعبد) تفسير بالمعنى وإلا فحقيقة التحنث من حيث البنية - فيما قاله السهيلي -: الدخول في الحنث. ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها: الخروج من ذلك الشيء كتحنث أي: خرج من الحنث وتحوب وتحرج وتأثم. وتهجد: هو ترك الهجود وهو النوم للصلاة وتنجس وتقذر. أوردها أبو شامة
قال ابن هشام: والعرب تقول: التحنث والتحنف. يبدلون الفاء من الثاء كما قالوا: جدف وجدث كما قال رؤبة:
لو كان أحجاري من الأجداف
يريد: الأجداث [88]
ال: وحدثني أبو عبيدة: أن العرب تقول: (فم) في موضع (ثم)
قلت: ومن ذلك قول بعض المفسرين:؟ وفومها؟ أن المراد: ثومها
وقوله: (حتى فجأه الحق وهو بغار حراء) أي: جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى:؟ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك؟ الآية [النمل: 86]
وقد كان نزول هذه السورة الكريمة وهي:؟ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم؟ [العلق: 1 - 5]- وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في (التفسير) وكما سيأتي أيضا - في يوم الاثنين كما ثبت في (صحيح مسلم) عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال:
(ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزل علي فيه)
وقال ابن عباس:
ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ونبي يوم الاثنين
وهذا ما لا خلاف فيه
والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان كما نص على ذلك عبيد بن عمير ومحمد بن إسحاق وغيرهما واستدل ابن إسحاق على ذلك بقوله تعالى:؟ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس؟ [البقرة: 185][89]
وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)
وروى ابن مردويه في (تفسيره) عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه
ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين
وأما قول جبريل: (اقرأ) فقال: (ما أنا بقارئ) فالصحيح أن قوله: (ما أنا بقارئ) نفي أي: لست ممن يحسن القراءة وممن رجحه النووي وقبله الشيخ أبو شامة
ومن قال: إنها استفهامية. فقوله بعيد لأن الباء لا تزاد في الإثبات
وقوله: (حتى بلغ مني الجهد) : يروى بضم الجيم وفتحها وبالنصب وبالرفع وفعل به ثلاثا قال الخطابي:
(وإنما فعل ذلك به ليبلوا صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم وتأخذه (الرحضاء) أي: البهر والعرق)[90]
وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور: منها أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس كما قال تعالى:؟ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا؟ [المزمل: 5] ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه ويغط كما يغط البكر من الإبل ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد
وقوله: (فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده) وفي رواية: (بوادره) : جمع بادرة قال أبو عبيدة: وهي لحمة بن المنكب والعنق. وقال غيره: هي عروق تضطرب عند الفزع
وقوله: (لقد خشيت على نفسي) وذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك ولا كان في خلده ولهذا قالت خديجة: كلا أبشر والله لا يخزيك الله أبدا. قيل: من الخزي وقيل: من الحزن وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ولا في الآخرة
ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة. فقالت: (إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث) . وقد كان مشهورا بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق
[91]
(وتحمل الكل) أي: عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤونة عياله
(وتكسب المعدوم) أي: تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك ويسمى الفقير معدوما لأن حياته ناقصة فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد ب (المعدوم) ههنا: المال المعطى أي: يعطي المال لمن هو عادمه
ومن قال: إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم أو النفيس القليل النظير فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما ليس له علم فإن مثل هذا لا يمدح به غالبا وقد ضعف هذا القول عياض والنووي وغيرهما. والله أعلم
(وتقري الضيف) أي: تكرمه في تقديم قراه وإحسان مأواه
(وتعين على نوائب الحق) ويروى (الخير) أي: إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش
وقول ورقة: (يا ليتني فيها جذعا) أي: يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح
(يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك) يعني: حتى أخرج معك وأنصرك
[92]
(نصرا مؤزرا) أي: أنصرك نصرا عزيزا أبدا
وقوله: (ثم لم ينشب ورقة أن توفي) أي: توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد وإيمان بما حصل من الوحي ونية صالحة للمستقبل
وقد روى الإمام أحمد عن ابن لهيعة: حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة: أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل؟ فقال:
(قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض)
وهذا إسناد حسن لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلا. فالله أعلم
وروى الحافظ أبو يعلى عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله: أن
[93]
وقوله: (ثم لم ينشب ورقة أن توفي) أي: توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد وإيمان بما حصل من الوحي ونية صالحة للمستقبل
وقد روى الإمام أحمد عن ابن لهيعة: حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة: أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل؟ فقال:
(قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض)
وهذا إسناد حسن لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلا. فالله أعلم
وروى الحافظ أبو يعلى عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله: أن
[93]
يتبــــــــــع